بحث حول الإسلام والفلسفة وما هو تعريف الفلسفة الإسلامية عند علمائنا
فابن رشد كان من أبرز فلاسفة المسلمين الذين تناولوا قضية العلاقة بين الفلسفة والشريعة ، أو العقل والنقل ، بل إنه يعد كذلك من أبرز من قدموا لها حلولاً واضحة ومحددة . وفى رسالته المركزة جدًا "فصل المقال" التي خصصها أساسًا لهذه القضية ، يحدد ابن رشد الغرض منها في محاولته الإجابة عن السؤال التالي :
هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق : مباح بالشرع ؟
أم محظور ؟
أم مأمور به (على جهة الندب أو على جهة الوجوب) .
وفى البداية يعرف ابن رشد "فعل الفلسفة" بأنه : النظر في الموجودات ، واعتبارها ، من جهة دلالتها على الصانع (أي من جهة ما هي مصنوعات).
وبناءاً عليه يتبلور مفهوم "الفلسفة الإسلامية" ، ويصبح له إطاره الخاص . فهي ليست فلسفة إلحادية خالية من فكرة الله كما في الفلسفة الإغريقية ، (ولدى أرسطو بصفة خاصة) كذلك فإنها ليست فلسفة إشراكية ، تتعدد فيها الآلهة (كما عند الثنوية وغيرها من الديانات الشرقية القديمة) ولكنها فلسفة توحيدية ، تقوم على الإيمان بالله ، وتسعى – بناء على توجيهات الشرع نفسه – إلى إثبات وجود خالق هذا الكون ومبدعه ، عن طريق تأمل الموجودات ، واعتبارها بواسطة العقل "فإن الموجودات إنما تدل على الصانع بمعرفة صنعتها ، وأنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم ما كانت المعرفة بالصانع أتم" .
و تصبح بذلك الفلسفة الإسلامية عبارة عن أسلوب في البحث أو منهج في الاستدلال أكثر من كونها بناءاً مذهبيًا يحتوى على عدد من النظريات الجامدة.
فإذا رجعنا إلى الشرع ، وجدناه – كما يقول ابن رشد – قد دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل ، وتطلب معرفتها به ، وذلك تبين فى أكثر من آية من كتاب الله ، تبارك وتعالى ، مثل قوله تعالى : وهذا فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبصار وهذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي ، أو العقلي والشرعي معًا .
ومثل قوله تعالى : ( أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ ) ، وهذا نص بالحث على النظر في جميع الموجودات ..
وقال تعالى : ( أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ، وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ ) وقال : ( وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى كثرة .
ومن هذا الآيات وغيرها يستخرج ابن رشد الاستدلال الآتي :
- إذا تقرر أن الشرع أوجب النظر بالعقل فى الموجودات واعتبارها.
- وكان الاعتبار ليس شيئًا أكثر من (استنباط المجهول من العلوم، واستخراجه منه) وهذا هو القياس .
فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي .
وإذا جاز لنا أن نتوقف هنا قليلاً لنناقش تلك الفكرة ، فإننا نقول : أن حصر مصطلح الاعتبار (أو النظر) القرآني في القياس العقلي وحده فيه تضييق شديد . فالنظر والاعتبار الوارد ذكرهما كثيرًا في القرآن الكريم أوسع بكثير من ذلك النسق المنطقي المتمثل في القياس العقلي وحده : فبعض هذا النظر حسي ، يقترب من الواقع ويكاد يلمسه ، وبعضه ذوقي ينفعل بالواقع ، ويعيش من خلاله تجربته الدينية ، بل إن بعضه يأخذ شكل الحوار مع شخص آخر ، ولا شك في أن طرق التصديق متعددة ، وأساليب الإيمان متفاوتة ، لذلك فإننا نرى أن منهج القياس العقلي يصلح تمامًا أن يكون طريقًا من طرق الاعتبار ، ولكنه بالتأكيد ليس هو الطريق الوحيد .
ومهما يكن من شيء ، فإن ابن رشد يمضى حاسمًا في استنتاجاته ، فيقول : "إذا كان الشرع قد حث على معرفة الله ، تعالى، وسائر موجوداته بالبرهان – وكان من الأفضل ، أو الأمر الضروري، لمن أراد أن يعلم الله ، تبارك وتعالى ، وسائر الموجودات بالبرهان ، أن يتقدم أولاً فيعلم أنواع البراهين وشروطها، وبماذا يخالف القياس البرهانى الجدلي ، والقياس الخطابي ، والقياس المغالطى – وكان لا يمكن ذلك دون أن يتقدم فيعرف قبل ذلك : ما هو القياس المطلق ؟ وكم أنواعه ؟ وما منها قياس ، وما منها ليس بقياس – وذلك لا يمكن أيضًا إلا ويتقدم فيعرف قبل ذلك أجزاء القياس التي منها تركبت ، أعنى : المقدمات وأنواعها.
ومعنى هذا أن الشخص الذي يمتثل لأمر الله تعالى بالنظر والاعتبار في مخلوقاته ، ينبغي عليه – تبعًا لاستدلال ابن رشد – أن يبدأ بدراسة "علم المنطق" الأرسطي !! وقد أدرك ابن رشد بالفعل خطورة مثل هذا الاعتراض ، فأسرع بإيراده ، والرد عليه "وليس لقائل أن يقول : إن هذا النوع من النظر في القياس العقلي بدعة ، إذ لم يكن في الصدر الأول ، فإن النظر أيضًا في القياس الفقهي وأنواعه هو شيء استنبط بعد الصدر الأول ، وليس يرى أنه بدعة" .
وهكذا يقيم ابن رشد مشابهة بين القياس العقلي والقياس الفقهي باعتبار أن كلاً منهما آلة ضرورية لاكتساب المجهول من المعلوم : "فإنه كما أن الفقيه يستنبط من الأمر بالتفقه في الأحكام وجوب معرفة المقاييس (أنواع القياس) الفقهية على أنواعها ، وما منها قياس ، وما منها ليس بقياس – كذلك يجب على العارف (يقصد الفيلسوف) أن يستنبط من الأمر بالنظر في الموجودات وجوب معرفة القياس العقلي وأنواعه .. بل هو أحرى بذلك" .
وبعد أن يقرر ابن رشد أن الشرع يوجب النظر في "القياس العقلي وأنواعه" يدعو إلى تلمس معرفته عند الحاذقين فيه ، وهم الفلاسفة القدماء ، حتى وإن كانوا على غير ملة الإسلام : "وإن كان غيرنا قد فحص عن ذلك ، فبين أنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله – بما قاله من تقدمنا في ذلك .
وسواء كان ذلك الغير مشاركًا لنا أو غير مشارك في الملة ، فإن الآلة التي يصح بها التزكية ، لا يعتبر في صحة التزكية بها كونها آلة لمشارك لنا في الملة ، أو غير مشارك ، إذا كانت فيها شروط الصحة ، وأعنى بغير المشارك : من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملة الإسلام.
وبالطبع ، يقصد ابن رشد العمل الكبير الذي قام به أرسطو وشارحوه في مجال علم المنطق ، لكنه يصرح بأننا ينبغي ألا نتبع القدماء إتباعا خالصًا بدون الفحص عما قالوه ، وذلك لمعرفة الحق منه والتمسك به ، والوقوف على الزائف فيه واجتنابه ، يقول ابن رشد : "يجب علينا إن ألفينا لمن تقدم من الأمم السالفة نظرًا في الموجودات ، واعتبارًا لها ، بحسب ما اقتضته شرائط البرهان ، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك ، وما أثبتوه في كتبهم :
فما كان منها موافقًا للحق قبلناه منهم ، وسررنا به ، وشكرناهم عليه .
وما كان منها غير موافق نبهنا عليه ، وحذرنا منه ، وعذرناهم.
ويشير رحمه الله إلى أن الدين والفلسفة يلتقيان في هدفهما البعيد، وهو اعتبار الموجودات للتيقن من وجود الصانع ، بل أنه يصف بالجهل والبعد عن الله أولئك الذين يصدون المؤمنين القادرين على البحث الفلسفي عن ممارسته ، والاشتغال به ، يقول : "فقد تبين من هذا أن النظر فى كتب القدماء واجب بالشرع ، إذ كان مغزاهم في كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه ، وأن من نهى عن النظر من كان أهلاً للنظر فيها (وهو الذي جمع أمرين : أحدهما ذكاء الفطرة ، والثاني العدالة الشرعية والفضيلة العملية والخلقية) فقد صد الناس عن الباب الذي دعا الشرع منه الناس إلى معرفة الله ، وهو باب النظر المؤدى إلى معرفته حق المعرفة ، وذلك غاية الجهل ، والبعد عن الله .
أما الادعاء بأن الفلسفة قد تجلب الضرر على بعض العقول ، ولذلك ينبغي أن تمنعها عن الجميع ، فهو ادعاء لا يستند إلى أساس صحيح ، "فليس يلزم من أنه إن غوى بالنظر فيها ولا يخرج من هؤلاء
أ/ إما من قبل نقص فطرته .
ب/ وإما من قبل سوء ترتيب نظرة فيها .
ج/ أو من قبل غلبة شهواته عليه .
د/ أو أنه لم يجد معلمًا يرشده إلى فهم ما فيها .
و/ أو من قبل اجتماع هذه الأسباب فيه ، أو أكثر من واحد .
هكذا كان علمائنا رضوان الله عليهم يتعاملون بكل فهم وحكمة ودراية مع الفلسفة ، أما حال شبابنا اليوم وللأسف فهم بين متعصب منغلق على نفسه متخوف دون مبررات وسطحي متفلسف من دون علم ، وبين من هم منعزلون وهائمون في جزر معزولة مع الفلسفات الأخرى وهم يظنون أن هذا الدين يتصادم مع الفلسفة بغير دليل على ذلك ولا هدى ولا كتاب منير ....